Saturday, September 24, 2011

القدر

.
.
يصبح عاديا أن يخطو بحذائه القذرعبرردهة المنزل ليصل الي حجرة نومه ثم يطوحه مع جواربه جانبا بلا اكتراث .. أو يترك حبات السكر المتناثرة التي خلفها علي المائدة لا يزيلها و لا يعير انتباها لجيوش النمل التي قد تتخذها مرتعا خصبا للانتشار .. أو يفتح باب الثلاجة بعد منتصف الليل ثم يدعه بلا مبالاة الي أن يجد من يغلقه في الصباح .. ينجلي لي أنه يبتغي استفزاز أمي - خاصة - بسخافاته التي تفتعل اهمالا لم يكن يوما من خصاله .. ثم يتبدي أنه يستمتع - في خبث خفي - بهذا الاستفزاز الذي كثيرا ما ينجح لاستدراجها للثورة .. يستمتع بأن تعاتبه متعجبة من اهماله الحديث المتكرر .. أو متسائلة مستغربة عن دواعي التغيير الطارئ .. ثم - أخيرا - لاعنة في سخط هادر الظروف التي تجعل منها عاملة نظافة تمسح قذارة حفنة من الذكور الاوغاد او مربية متجلدة تصبر علي بعض الاطفال المدللين المهملين و تجاهد عبثا لاقناعهم بأهمية النظام و النظافة و المسئولية .. ثم لا يفوتها أن تعاتب غاضبة قدرا ظالما تحمله مسئولية علي هذه المأساة .. و هو يستمتع !! .. نعم يستمتع ..

تبدو التفاصيل في حد ذاتها غريبة أحيانا .. غير أن بعض التأمل ربما يشكلها .. يضعها في موضعها الصحيح من الصورة الكبري .. فتغدو أحداثا عادية مألوفة .. ليست سوي طرف بارز من جسد أضخم و مسألة كبري أعمق و أعظم .. فمثلا .. أبي ليس كهلا تستدرجه الشيخوخة للاجهاز علي ما بقي في عروقه من شغف بالحياة .. انه طفل .. مجرد طفل مدلل عابث لا يتوقف عن اللهو و لا يمل التعثر و لا يرهقه طول الصراخ .. كل الذكور هذا الطفل .. و قدرهم كلهم أن يستمروا في لهوهم التافه و شغفهم الاحمق بالعبث و اقتراف الاخطاء الساذجة و تكرارها في اصرار غبي عنيد .. كلهم يبقون - رغم ما قد يبدوا عليهم من نضج - ذاك الطفل الأخرق المستعرض يجتذب الانظار بسخافاته و يستدر العطف و الرعاية بافتعال الحمق والضعف الذي يدرك أنه نقطة قوته للاستحواذ علي محبة محبيه البالغين .. و يظل في احتياجه الاناني النهم للحنان و التعاطف يواظب علي مقارفة اخطائه مستمتعا باهماله الاستعراضي الاحمق .. لا يعنيه أن يتعلم كيف يقومه قدر ما يستعمله وسيلة لاستدرار الحب و اجتذاب الاهتمام .. كل الذكور هذا الطفل الدائر في فلكه المفعم بالاستعراض و العناد و الانانية العمياء لا تنفك تطلب الحب دون اعتبار لمكافأة العطاء .. و قدر الانثي أن تبقي هي .. النهر القادر الصامد الجاري لا ينضب أبدا .. يروي هذا النهم الغامر بمعين لا يكل من العطف و الحنو و الوداد .. في صبر مذهل يمتص طاقته العابثة المشتتة في استعراضات صاخبة جوفاء .. بتلقائية غريزية لا تفهمها مدارس الدنيا تثابر لتقويم خيوط هذه الطاقة و تجميعها مجددا .. ثم اعادة توجيهها و ارشادها لمسارات منظمة مقننة منتجة و فاعلة .. تخوض رحلتها الأزلية بلا كلل او تمرد .. تشبع لهفته الابدية للرعاية و الاحتضان و تروي قلقه التليد من ظلام قديم عميق بفيض من نبع الاطمئنان و الاستقرار الغامض في قلبها .. سر لا تفهمه هي حتي في أحضان روحها المعجزة يعينها لتهدهد توتره الجامح و ترشد خطاه الشائهة حتي يطمئن قلقه و يخبو انفعاله و يهدأ صخبه .. فتري عيناه و يعرف قلبه و يهدأ باله و يفهم عقله .. فيتحرر .. يتحرر من خوفه و غباءه و انانيته المحدودة العمياء .. فتنطلق ملكات عقله ابداعا و تتفتح ابواب روحه شغفا و يتكشف جوهر الحب و العطف المكنون في قلبه فيدرك معني التعاطف و حاجته للعطاء .. انها هناك دوما تمهد له ليكشف بنفسه عن جوهر ذاته الذي يداريه غباء اندفاعه المستعر .. و تريه معني انفعاله المهدور و مكمن القوة في طاقاته الجبارة الحقيقية المكنونة التي لولا حبها لضاعت طول حياته في شتات خاسر و دوائر مفرغة من الاستعراض و التباهي الطفولي الاعمي .. هي التي لولا حبها لظل يطلب الأمان أبدا يطارده خوفه القديم من المجهول المظلم الغريب .. هذا القدر .. ظمأ و روي .. أنانية و عطاء .. استعراض و فهم .. لهو و تربية .. قلق و اطمئنان .. خوف و أمان .. ضعف و قوة .. صخب و استقرار .. عبث و نظام .. عناد و صبر .. تيه و سكن .. فوضي و ترتيب .. غموض و الهام .. جهل و ايمان .. هذا القدر .. من الأنانية يتضح الحب .. و من الحب ينبع الأمان .. و من الأمان تشرق البصيرة .. و من البصيرة يتكشف الاعجاز .. الأنانية بدأت الحب .. و الحب جعل الأنانية بصرا .. فلم تعد أنانية .. هذا قدر