Wednesday, March 9, 2011

عندما لا يموت الهاتفون

متحطش ايدك في جيوبك و انت ماشي
.. لطالما قالها لي أبي .. و لطالما تحينت الفرص لمغافلته و تجاهله .. لم أكن طفلا عنيدا بطبعي .. بل بالعكس .. كنت وديعا مطيعا .. لكني لم أكن أتحمل كبت لازمتي اللذيذة .. و لم يكن أبي بالحكيم الذي يعنيه أن يفسر فرماناته العفوية .. غير أنه ذات مرة باح لي : عشان لما تتكعبل تقدر تسند عالارض قبل ما تقع .. و كبر الطفل الوديع .. اصبحت أرافق أبي في السير مرات نادرة .. لكن حتي عندما أسير وحيدا .. لم يعد يعنيني أن أضع يدي في جيوبي مثلما كنت .. أحيانا أفعلها .. و أحيانا أخري أسير طليق اليدين بلا اكتراث لدفء جيوبي الحنون .. و مع ذلك .. لم يحميني هذا من التعثر مرات و مرات .. و ما تجنبت الوقوع كل هذا الوقت .. تلك المرة .. نظرت لليد الممدودة لي .. و رفعت رأسي لأري الفتي الواقف هناك يبتسم لي : أنا آسف .. و مددت يدي بدوري ناهضا .. و نظرت اليه لحظة .. و ابتسمت : أنا اللي آسف .. و عاودت السير .. يد تطبق علي الحقيبة و أخري ترفع الموبايل .. و صديقي الذي يسبقني ينهرني : يا ابني كفاية بقي اللي بتعمله .. ارفع صوتك و اهتف أحسن .. انت مش عاوز تنطق ابدا .. أتبعه شاهرا الموبايل باصرار .. أهتف ؟؟ .. أريد أن أهتف .. أريد أن أصرخ .. أريد أن أحلق .. أريد أن أشتعل .. أشعر أن شيئا ما مهولا يحدث .. و أريد أن أتشبث .. دائما ما أخرج من اللحظة لأتشبث بها .. فأفقد اللحظة و أري بين يدي الهواء .. لكن هذه اللحظة ليست كغيرها .. هذه اللحظة تستحق أن تُسَجل .. و تستحق أن تُحفَر .. و تستحق أن تُرسَم .. تستحق أن تُغنَي .. و أن تعيش .. تستحق أن نتذكرها جيدا لنجد ما نحكي عنه اذا ما امتد بنا العمر لنحترف الحكاية .. تستحق أن نحفظها و أن نطبق عليها انفاسنا ما دمنا نتنفس .. و ما دمنا نتحرك .. ندفس الخوف في جيوبنا أو نرفع أيادينا و نحن نتراقص علي الطرقات حتي لا نتعثر .. أتعثر مرة أخري .. " أنا آسف .. أنا اللي آسف " .. وجه أسمر آخر يفوت و آخر يتبعه ثم ثالث من بعدهما .. و الملامح تذوب في بعضها .. و أنت أيضا تذوب .. تسقط و تمد يدك .. و تعتذر و تجيب الاعتذار .. و تَحمي و تحتمي .. و تَطعَم و تُطعِم .. و تتغطي و تُغَطِي .. لا بداية لهذه الحركة الكونية الدائبة و لا نهاية .. كم كان عمر الفتي الأول .. و ما لون الأخير .. الملامح تذوب .. و الألوان تختفي .. الخطوط تطمس .. و الأرقام القومية تمحي .. لا يصبح للشخص معني و لا اسما و لا هوية .. لا يصبح للشخص حضورا ملموسا .. فكرة كبري تندفع من بين الأجساد الحارة .. روح عظمي تولد من الملامح الذائبة المخلوطة .. نهر عظيم يسري بين العروق الدافقة كلها فيحملها .. و تحمله معها في تدفقها الحار الحميم .. معني أضخم من فرد و أعمق من تفصيلة و أقوي من تاريخ مولد أو مسقط رأس أو حركات صلاة يتوهج .. و يسطع في أفق يعلو الجميع و يضمهم جميعا .. فيتطلعون اليه مبتهلين متوحدين .. طارحين كل القسوة و الانانية و العدوان .. و الضعف الذي كبلهم عهودا .. كيف سنذكر كل هذا ؟؟ .. كيف سنحفظه .. اذا ما تعثرنا غدا .. و كيف سنراه .. حتي لا نسقط بالسهولة التي تدبرها لنا أصابع الظلام القذرة الملوثة .. كيف ؟؟ .. كيف ؟؟ .. أسقط مجددا .. و يمد صديقي يده .. اللي بيهتف مش هيموت .. كيف يعيش و هو لا يملك سوي الهتاف ؟؟ .. و صديقي يرفع يده معهم .. اللي بيهتف مش هيموت .. لكنك ترفع يدك و تلهب حنجرتك فتعمي عن موضع قدميك .. اللي بيهتف مش هيموت .. لكن امواج الصوت لا تصد ضربات رصاصات القنص الأسرع من الصوت .. اللي بيهتف مش هيموت .. الأفق الغامض يتوهج بالروح الفواحة .. الاحجار تكاد تنصدع من الحرارة و الارض تفيض بالحركة الدائبة .. فتتسع .. و تسع الكل .. و تضم الكل .. الكل واحد .. الكل واحد .. و الدفء قاهر .. يصهر الحجر و الحديد .. يصهر القنابل و الرصاص .. يصهر المتاريس و الحدود .. يقضي علي الزمن و يخلق اللحظة .. لا ماضي تبكيه .. و لا مستقبل تنعيه .. طمأنينة جديدة تنعش روحك .. و أمن لم تجربه قبلا يدغدغ أوصالك .. و أثقالا هائلة تنزاح عن قلبك المنهك .. و أنفاسا نقية تغزو رئتاك .. فلا قيمة لشئ تبقي الا ان تصرخ .. هو الوقت لا غيره .. حتي الحياة ذاتها تهون الآن .. اصرخ باعلي صوتك .. فقبل الصراخ لا حياة .. و الموت الأكيد أن تصمت .. لا خوف هنا و لا صمت .. يا أبي العزيز : ما الذي عرفته غير الحذر العقيم من سقوط مرتقب .. ما الذي عرفته غير تهويش الاقدار بالعثرات و تهويش التهويش بالتهويش .. انا نزعت يدي من جيوبي لكن يا سيدي .. حتي الملابس عديمة الجيوب لن تنقذنا ما دام الخوف يجتاحنا .. ما دام القلق من السقطة القادمة ينهش ارواحنا المسلوبة .. .. ما الذي عرفته ؟؟ .. اللي بيهتف مش هيموت .. ما الذي عرفته غير الخوف ؟؟ .. اللي بيهتف مش هيموت .. هل تعرف كيف يمنح الهتاف الحياة ؟؟
.. أنا عرفت
..