Sunday, May 30, 2010

أرواح النمل

اقتربت قليلا من الرف لأتأمل الصف الأسود المتقطع الذي ينسحب من تجمع دائري كثيف حول حبة سكر صغيرة
.. تابعته علي الجدار حتي نهايته علي الأرض في شق قديم ضئيل بزاوية الجدار
.. فحصت البرطمان لأتأكد أن المخلوقات الصغيرة العجيبة لم تتسلل الي داخله .. ثم انتظرت .. هل أمسح كل هذه النقط السوداء في لحظة .. امممم .. لم أكن ابدا من الأطفال الذين يتلذذون بتعذيب الحيوانات او حرقها .. كنت أقتل النمل أو الصراصير أحيانا صحيح .. لأنها كانت تضايقني أو تصيبني بالتقزز أحيانا .. لكن لا أذكر أن ذلك كان يصيبني بالتلذذ .. و عندما كبرت .. تغيرت نظرتي للنمل .. من الضيق الي الاعجاب .. من التقزز الي التأمل و الملاحظة .. حتي عندما يخرج من الشقوق القديمة في الصيف لينصب تجمعاته الهائلة حول حبة سكر صغيرة لا تلحظها عينك علي الرفوف أو الأرض .. لم أكن أمسحها ببساطة أو أغرقها برشفة ماء صغيرة بسهولة .. شئ ما بداخلي كان ينبض ملحا .. ألهذا المخلوق التافه الدقيق روحا تستحق الاحترام ؟؟ .. هل بهذه الملليمترات القليلة شيئا يربطها بالسكر و الماء و الهواء .. شيئا يربطها بي ؟؟ .. هل من العدل سحقها بنفس البرود الذي تقلب به السكر في كوب شاي .. نظرت الي الصف مرة أخري .. ضربة واحدة تكفي .. و أحدا منهم لن يعرف أو يفهم ما حدث .. و لن يكون لديه الوقت ليفهم .. و موتهم .. هل سيمثل فارقا ؟؟ .. تذكرت ما شعرته من أيام في روابط .. أحد ملاجئ الجنون في وسط البلد .. اخترقتنا " عبير علي " بعرضها عن أربعة فاشلين ملوا انتظارهم جديدا لا يأتي و تغييرا لا يمكنهم احداثه أبدا في نمط حياتهم التافهة التي لا يسعهم فيها تغيير شئ غير ألوان ستائر البيت أو يدكوراته .. منهم الفاشل في الحصول علي وظيفة و الفاشل في الحب و الفاشل في التعامل مع الواقع .. يجتمع عليهم الفساد و التزييف و التطرف و الوحدة مع نصائح الأم التي تعيش بمعزل عن العالم الخارجي تحارب الهموم بالغناء .. و تربي أولادها علي الرضا بحياتهم البسيطة و تحرضهم علي السعادة التي تبلغ أقصاها حدود باب البيت الصغير .. و ازاء شعور كل منهم بأن ورقة لن تتحرك من موضعها من العالم اذا فارقه فهو يقرر أن ينتحر ليغيب بشكل فعلي عن واقع يطحنه فيه الألم و اليأس و هو يعيش فيه غائبا رغم وجوده
.. ما الفارق
؟؟
.. ما الفارق ؟؟ .. يمكنني محو هذا الصف في لحظة .. نصف كوب الماء هذا و تكون مذبحة .. هل لهذه المليمترات الحقيرة أرواح .. هل تموت حقا .. و من يهتم .. الخبر كان بسيطا و عابرا في نهاية النشرة .. عن جنازة شعبية لجنديان ماتا في دارفور .. دارفور ؟؟؟؟
.. ما معني أن تكون مصريا و تموت في دارفور .. مات اثنان ؟؟ .. فليموتا .. ما لم تسمع الصراخ في بيت الجيران .. و ما لم تتعثر في صوان يغلق عليك الطريق .. و ما لم تتعسر حركة ميدان التحرير للجنازة المهيبة من عمر مكرم .. ما لم يعلن الحداد الرسمي في الدولة .. ما لم يكونا اخوتك أو اصدقائك أو أقربائك .. ما لم يكن بائع الجرائد المعتاد أو عامل الأسانسير الطيب أو نادلة الكافيه ذات الابتسامة الساحرة .. ما لم يتغير شئ في حياتك .. لماذا ستهتم .. وبم ستشعر ؟؟ .. مات اثنان في دارفور .. ربما كان أحدهما حاصلا علي شهادة الاعدادية و ربما كان طبيبا .. ربما كان في العشرين أو في الثلاثين .. يلعب الكرة او يفضل الطاولة .. يطرب للغناء القديم او تبهجه الابتذالات المعاصرة .. ينتظر أن يعمل بالدولة أو يرتب مشروعا خاصا او يحارب للحصول علي تأشيرة الهروب .. خاض قصة حب مريرة أو يفتش عن واحدة .. ربما كان عطوفا أو متبلدا لا يجد لذة في العطاء .. من سيعرف كل هذا .. يموت مصري في دارفور .. لان التجنيد اجباري .. أو لان التجنيد وطنية !! .. ربما .. و ربما مات بسبب العلاقات الاستراتيجية التي تربط مصر بالسودان .. ربما مات لدور مصر الرائد في افريقيا و علاقتها بالأمم المتحدة و الاتحاد الافريقي .. ربما كان لموته علاقة بمشكلة مياه النيل و الدفاع عن حقنا فيه ؟؟ .. ربما مات لأن .. ما السبب الذي فكر فيه من خرجوا في هذه الجنازة .. هل فكر أحدهم في سبب !! .. هل فكر أحدهم في قصتين راحلتين ؟؟ .. من توقف أمام الخبر العابر ؟؟ .. كل ما أعرفه أن اثنان ماتا .. كان من الممكن أن أكون مكانهما ببساطة .. أن لا تساوي حياتي أكثر من ثمن رصاصة و كلمة دبلوماسي متأسف و خبر عابر في نهاية النشرة .. السبب أحيانا كلمة مبهمة .. مثل كلمات لغة بائدة ضاعت و تاهت في غياهب المخطوطات و الآثار .. و هذه الأشياء الحقيرة المقززة ؟؟
.. كم تساوي ؟؟
.. ما السبب الذي يحول بيني و سحقها ؟؟
.. أفرغت كوب الماء في الحوض
.. ثم أضفت السكر للشاي و قلبت .. تأكدت من غلق البرطمان جيدا
.. نظرت الي الكتلة السوداء التي شكلت جسرا ينقل الحبة الصغيرة علي طول الطريق الي الشق و ابتسمت
.. ثم أطفأت النور و غادرت المطبخ
.. في هدوء ..

Wednesday, May 5, 2010

من الذي مل القصص المكررة ؟؟

لا زالت بعض الساعات باقية
.. و انا بحاجة لتعيرني آذانك قليلا .. ربما مللت الأحاديث المكررة .. لكن هل نملك حكيا غير قصصنا المختلفة .. عن نفس الأشياء ؟؟
.. علي سطح العمارة المقابلة يوجد كلب مربوط .. و في نفس الموعد ساعة الغروب الشاحبة .. يصلني نباحه الكئيب .. و أصعد الي سطح عمارتنا .. أجده يقترب من حافة السور ثم يشب حتي يصل بالكاد مستواها ..عبثا يحاول أن يرفع رأسه فوقها ليري الدنيا تحته .. لكن السلسلة المشدودة علي نهايتها تأبي .. وهو يترجع ثم يحاول مجددا .. ثم يعود يلهث و يراقب قرص الشمس الغارب و ينبح نباحه الكئيب
.. لا زالت بعض الساعات باقية
فدعني أخبرك أن تلك البنت في عربة المترو كانت مصابة بحول شديد .. حولا كاملا هو أول ما يسترعي انتباهك عندما تراها .. و لا يمنحك فرصة لتجاهله .. و يغريك بالتعاطف .. و أنا تعاطفت .. و ندمت .. ما يفعل التعاطف ؟؟ .. في جميع الأحوال هي فقدت شيئا .. فدعنا نعتاد منظرها و نلاعبها مثل والديها .. بلا تكلف أو استعطاف .. دعها تكبر و تتعلم و تعمل بيديها .. دعها تكون مهمة في مكان ما .. و لا تلمح بعطفك السخيف الي اعوجاج عينيها الشنيع .. دع الحقيقة باقية كما هي و لا تضعف .. و لا تضعف الآخرين بضعفك .. الذي يمتهن القتل لم يفهم يوما سوي أن القتل مهنة .. فدعنا لا نعاتب الناس علي عاهات أرق كثيرا من القتل .. دعنا لا نحاصرهم .. أليس القتلة هم أكثرنا تذوقا للحرية ؟؟
!!
.. بعض الساعات باقية
.. فدعني أخبرك عن السيد ممثل مؤسسة العدل الذي أوقف سيارته بعنف أمام الميكروباص .. ثم اندفع من بابها مباشرة الي السائق ليحاول صفعه من خلال النافذة .. و كانت مبرراته بين الشتائم واضحة .. " انت بتكلم وكيل نيابة " .. لا أحد في الميكروباص تذكر من كان مخطئا في الاثنين .. لكن امتعاضا ساخطا وحد بين الجميع .. نحن لم نخف صدقني .. لان غضبنا فاق الخوف و حواه .. و لولا النهايات السلمية المعتادة التي يحسمها المارة دائما .. لتحول الغضب اعصارا فتاكا جماعيا لا يكترث للمناصب أو رنين الألقاب
.. بعض الساعات باقية
و الطبيب النفسي يخبرني عن مريضه الذي سيطرت عليه فكرة أن يعد الحروف الخارجة من شفتيه باستمرار .. كلمني عن كفاح الرجل و محاولاته المستميتة للهروب من فكرته القاهرة .. قبل أن ينتهي عذابه تحت عجلات قطار المترو
.. بعض الساعات باقية
.. و ليس للأمر علاقة بحب العمل أو كرهه .. لكن عشر ساعات او اثني عشر في مكان واحد ليست عملا .. انها ثقل خانق لا يتحمله انسان .. صدقني ليست مسألة حب أو كره .. فربما تعمل عملا تحبه .. لكنك تغرق فيه سعيا وراء مال أو تحقيقا لمركز اجتماعي او مسئولية يفرضها عليك صاحب العمل الأصلي .. و في النهاية تصبح عاملا جيدا .. لكنك لا تعد تذكر أنك أحببت شيئا .. هل عرفت الآن ما أقصده ؟؟ .. ربما مللت الأحاديث المكررة لكن القهر ليس حديثا مكررا .. القهر حياة نحياها و نتفسها دون حتي أن نشعر .. ليس عاهة مستديمة أو عربة مصفحة أو فكرة مسيطرة .. القهر شعور .. بالخوف و بالنقص و بالعجز .. ليس فقط أن تعمل عملا لا تحبه .. لكن .. أن تعمل عملا لا تحبه و لا تكرهه .. أن تصبح ترسا ميكانيكيا في نمط آلي كبير .. القهر ليس احتكارا لأصحاب السيارات الفارهة و الكرافتات و الألقاب .. بل حوار مستمر تلقائي بيننا لا يتوقف و لا يجهل أحدنا لغته .. لمحة عادية عابرة في روتين الحياة اليومي .. قطعة من نظراتنا و كلماتنا و افعالنا .. مرايا يحملها كل منا ليلقي الي صاحبه جزءا من السلسة المشدودة حول عنقه .. فلا تنزعج
.. انت مللت الاحاديث المكررة لابد .. لكن اقبل اعتذاري .. انا مدين بعشرات الاعتذارات .. لذلك الذي سبقته الي مكاني في طابور التذاكر .. و لتلك التي لم أرفع عيني عنها طول الطريق .. و لهؤلاء الذين استمتعت بتجاهل مساعدتهم بعد ساعات العمل الطويلة .. اقبل اعتذاري انت علي الاقل .. انا لم أمنحك شيئا مهما لكن اسمع
.. لو لم تلقي بنفسك اليوم تحت عجلات المترو .. اكتب من فضلك
.. مهما كان حديثك مكررا
.. لربما كنت موجودا اقرأك
.. انا مضطر للعمل الآن صحيح .. و لن أري اليوم شبة جاري الكلب ساعة الغروب الشاحبة لكن
.. بقيت ساعات قليلة
.. و في أوقات عزيزة .. سأهرب ربما من روتين الحياة اليومي
.. و سأقرأ لك ساعتها فلا تبتئس
.. انا لا أملك سوي وعدي برد الدين
.. فاكتب
.. مهما كان الحديث مكررا
.. اكتب
.. من يدري
.. لربما كنت موجودا ساعتها
.. من يدري
!!!